نتحدث كثيراً عن تقبّل الآخر وقبول المختلف، لكننا نتهرّب من السؤال الجوهريّ الذي يقبع في صميم وجودنا: هل تصالحنا مع أنفسنا أولاً؟
كيف لنا أن نعيش سلاماً حقيقياً مع من حولنا، ونحن في أعماق ذواتنا نخوض حرباً صامتة لا تهدأ؟
في كلّ إنسان منّا صراعٌ خفيّ لا تدركه العيون. فثمّة جانبٌ يتوق إلى الحبّ والقرب، وآخر يرتعد خوفاً ويلوذ بالاختباء. هناك وجهٌ يبدو قوياً صلباً، ووجهٌ آخر يرتجف في الخفاء.
قد نبدو للناس متماسكين راسخين، لكن الحقيقة المرّة أننا نُخفي ضعفنا ونتجاهل جراحاً عميقة لم نجرؤ يوماً على مواجهتها.
يقول عالم النفس الشهير كارل غوستاف يونغ إنّ في كلّ بني آدم جانباً مظلماً، يحجبه عن الأنظار، بل ويحاول أحياناً أن يُنسيه نفسه إياه. هذا الجانب هو الذي يُخطئ ويغضب ويحسد، وينزلق إلى مهاوي الأنانية.
نتوهّم أننا تحرّرنا من هذا الظلّ، لكنه يعود ليطفو على السطح فجأة: في لحظة غضبٍ عارمة، في حكمٍ متسرّع، في كلمةٍ جارحة تنساب من الشفاه دون وعي أو إدراك.
جذور النقد والخوف من المختلف
والحقيقة المؤلمة أننا ننتقد الآخرين لأننا عاجزون عن التصالح مع الجوانب التي نكرهها في أنفسنا. ونخاف من المختلف لأننا أصلاً غير متصالحين مع التناقضات الكامنة في دواخلنا.
يؤكد عالم النفس الإنساني كارل روجرز على أهمية "التقبّل الذاتي غير المشروط" - وهو أن نحب أنفسنا كما نحن، بعيوبنا وفضائلنا، دون شروط أو قيود. روجرز يرى أن معظم مشاكلنا النفسية تنبع من "التقبّل المشروط" الذي تعلّمناه في الطفولة، حين كان الحب والقبول مرتبطاً بسلوكيات معيّنة.
هذا التقبّل المشروط يخلق في داخلنا "ذاتاً مثالية" نسعى لتحقيقها و"ذاتاً حقيقية" نخفيها ونخجل منها. والمسافة بين الاثنتين هي مصدر معاناتنا الأساسي.
تقبّل الذات لا يعني تبرير الأخطاء ، بل يعني الاعتراف الصادق والقول بشجاعة "أنا مش مثالي.. بس بحاول أفهم نفسي وأتغير." فالنضج الحقيقي ليس في ادّعاء الكمال، بل في الصدق المطلق مع النفس.
التنافر المعرفيّ: صراع الصورتين
يُطلق علم النفس على هذه الحالة مصطلح "التنافر المعرفيّ" - وهو ذلك الصراع المحتدم بين صورتين متناقضتين الصورة التي نرسمها لأنفسنا في أذهاننا، والصورة التي نتجسّدها فعلياً في سلوكياتنا.
هذه الفجوة الموجعة تظل تنزف ألماً حتى نجد الشجاعة لمواجهة أنفسنا بصدقٍ بالغ، ونتقبّل حقيقتنا كما هي، لا كما نحبّ أن نراها أو نصوّرها للآخرين.
ويأتي دانييل جولمان بمفهوم "الذكاء العاطفي" ليؤكد أن الوعي بالذات هو الركيزة الأولى لأي نمو نفسي حقيقي هذا الوعي يشمل:
الوعي بالمشاعر: إدراك انفعالاتنا لحظة حدوثها
الوعي بالدوافع: فهم ما يحرّكنا من الداخل
التقييم الذاتي الدقيق: رؤية نقاط قوتنا وضعفنا بوضوح
الثقة بالنفس: قبول ذواتنا مع السعي للتطوير
فالإنسان الذي يفتقر للذكاء العاطفي يعيش في عمى عن حقيقته، وبالتالي عن حقيقة الآخرين.
علم النفس المعرفي يكشف لنا كيف أن "التحيّز التأكيدي" يجعلنا نبحث عن الأدلة التي تؤكد صورتنا الإيجابية عن أنفسنا، ونتجاهل أو نفسّر بطريقة مختلفة أي دليل على عكس ذلك.
وفي الوقت نفسه، نسقط على الآخرين صفاتنا التي ننكرها، فنرى الأنانية في الآخرين بينما نبرر أنانيتنا بأسماء أخرى مثل "الحزم" أو "حماية المصالح".
التسامح: رحلة تبدأ من الداخل
التسامح الحقيقي لا يبدأ من الخارج، بل ينبع من الأعماق - من رحمةٍ نمنحها لذواتنا المنهكة، من مغفرةٍ نسكبها على قلوبنا المثقلة بالأوجاع.
وحين تتعلّم أن تسامح نفسك، حينئذٍ فقط ستقدر على مسامحة من لا يشبهك، ومن يخطئ مثلك.
وقدّم جون كابات زين و ثيش نات هان مفهوم "اليقظة الذهنية" (Mindfulness) كطريق للتصالح مع الذات، هذا المفهوم يختصر الحضور الكامل وهو العيش في اللحظة الراهنة دون أحكام مسبقة ،والمراقبة الرحيمة وهي مراقبة أفكارنا ومشاعرنا دون إدانة أو محاولة تغيير فوري.
ثم القبول الجذري وهو تقبّل ما نشعر به دون مقاومة، فالمقاومة تزيد الألم
اليقظة الذهنية تعلّمنا أن نكون شهوداً على صراعاتنا الداخلية دون أن نغرق فيها، وأن نرى أنفسنا بعين الرحمة لا القسوة.
يرى أبراهام ماسلو أن الإنسان المُحقق لذاته (Self-Actualized) هو من استطاع تكامل جوانبه المتناقضة هؤلاء الأشخاص يقبلون نفسهم والآخرين كما هم - لا يخافون من إظهار ضعفهم أو اعترافهم بجهلهم - يتميزون بالأصالة والتلقائية - قادرون على تكوين علاقات عميقة ومعنوية
ماسلو يؤكد أن هذا التكامل النفسي لا يأتي إلا بعد رحلة طويلة من مواجهة الذات وقبولها.
كلّ هذه النظريات تتفق على حقيقة واحدة أن التصالح مع الذات ليس ترفاً نفسياً، بل ضرورة حتمية لأي سلام حقيقي في العالم.
فالإنسان الذي لم يواجه ظلّه النفسي، ولم يتصالح مع تناقضاته، ولم يطوّر شفقة حقيقية تجاه نفسه، سيبقى يسقط صراعاته الداخلية على الخارج، وينتقد في الآخرين ما يرفضه في نفسه.
أما الذي خاض رحلة التصالح الداخلي، فإنه ينظر للعالم بعيون مختلفة - عيون تحتوي بدلاً من أن تُقصي، وتتفهّم بدلاً من أن تحكم، وتسامح بدلاً من أن تنتقم.
فالسلام الحقيقي رحلة، وليس وجهة... رحلة تبدأ من القلب وتمتدّ لتشمل العالم.